من أجل حياةٍ أجمل … (1) ثقافة التسامح …

التّناقض والاختلاف من سنن الطبيعة الأم، فالبشر بطبيعتهم مختلفون بألوانهم وأشكالهم، فمنهم الأبيض أو الأسود ومنهم القبيح أو الجميل ومنهم من يتدرّج بين المتناقضات.

ومعتقدات الإنسان تخضع إلى نفس القانون الطبيعي، فالمعتقد الشخصي للإنسان يعتمد على عوامل بيئته المحيطة ومجتمعه من جهة وعلى عوامل ذاتية ثقافية وأُخرى متعلّقة بذكاءه وكفاءته وملكته الفكرية من جهة أُخرى.

وكل هذه العوامل تعتمد على الطبيعة الأم الّتي تمنحها عشوائياً للمخلوقات، فلا شك أنّ التّنوّع الوراثي بين أبناء البشر هو تنوّع عشوائي “ضمن الحدود المناسبة الّتي لا تتعارض مع قابلية الحياة” ويؤدي هذا التنوع بالضرورة إلى تدرجات مختلفة من الذكاء الإنساني لدى البشر تماماً كلون البشرة.

بالإضافة إلى أنّ ولادة شخص ما في بيئة متعلمة أو جاهلة أو في بيئة غنية أو فقيرة هو حدث عشوائي مفروض من الطبيعة الأم لا حيلة للإنسان في تحديده.

من هنا أصل إلى أنّ الاختلاف والتغاير (في كل شيء بما في ذلك المعتقدات) هما من الموجودات الطبيعية.

والرّغبة في جعل الغير (الآخر) مماثلاً للذات هي رغبة تتناقض مع رغبة الأنا (الذات) بالسكون والبقاء على ما هي عليه دون تغيير. ولكنّها تتجاوز حدود التناقض لتصل إلى الحالة المرضية الجانحة وربّما المجرمة عندما تتخّذ من العنف أداةً لهذا التغيير.

الرّغبة في جعل الآخر مماثلاً هي تماماً كجعل المحيطات واحدةً من حيث العمق، أو تسوية الجبال بالسّهول، أو كتلوين كل البشرية باللون الأبيض.

وتنطلق هذه الرغبة – رغبة تغيير الآخر – من عدم الرضى عن اختلافه أو من الرّغبة في جعله مطابقاً للذات، أو من قناعة مفادها هداية الآخر المختلف إلى ما توصلّت إليه الذات واقتنعت به على أنه الأمر الصالح لكل ما هو ذات أو آخر.

وهذا ما ينطبق علي الآن أثناء كتابة مقالة تهدف إلى نشر ثقافة التّسامح. والّتي أجدها ضروريّةً جدّاً في مجتمعات متنوّعة الاتجاهات بشدّة وتجتاحها في الآن ذاته رياح عولميّة عاتية، بينما تسير هي ببطء في طريق الحضارة الإنسانية.

السّطور التالية مقتبسة بتصرّف بسيط عن الموسوعة العالمية الحرة المحايدة ويكيبيديا:

التسامح نقيض التّعصّب ويقوم على:
– نبذ التطرف.
– نبذ ملاحقة كل من يعتقد أو يتصرّف بطريقة مخالفة قد لا يوافق عليها المرء.
– وهو فضيلة وسطية تتراوح بين اللامبالاة الفكرية (المبالغة في التسامح) و بين ضيق الأفق (المبالغة في عدم التسامح).

إنّ التسامح الديني والسياسي من أكثر جوانب التسامح ظهوراً عبر التّاريخ، سيّما أن الاختلافات الإيديولوجية الدينية والسياسية قد تسبّبت في حروب وحملات تطهير وفظائع لا تعد ولا تُحصى.

ويقول شخص مجهول: “إن هناك أمر واحد لا أتسامح معه وهو عدم التسامح”، وتشرح ويكيبيديا هذا القول على أنّه هناك حدوداً لكلٍّ من التّسامح والتّعصّب. فلا يُمكن لمجتمع أن يتسامح مع قاتل أو مدمّر أو مخرّب.

انتهى الاقتباس هنا.

والتسامح أيضاً هو أن تنظر إلى شيء برحابة صدر، في حين أنّك لا تؤيده وتستطيع التنديد به وإدانته بصفة قطعية. وأيضاً: أن تترك شيئا يحدث أو يبقى في حين أنّك تستطيع منعه.

فقرة معترضة: أما عن جمال التّغاير والاختلاف، فيُقال إنّ الاختلاف هو الّذي يضع الحدود لذواتنا وهو الّذي يُميّزنا عن غيرنا، فلا أبيض بلا أسود ولا يسار بلا يمين، فنحن لا نبدو مميّزين دون آخر يظهر بشكلٍ مختلفٍ عنّا.
بالمختصر الآخر المختلف هو من يجسّد تميّزاً فينا.

أمثلة من التّاريخ والعصر الحديث عن التّعصّب والتّطرّف وعواقبهما في قتل الأبرياء:
– التطهير العرقي ضد مسلمي البوسنة وكوسوفا (قوصوه بالعربي).
– الحرب الطائفية الدائرة حالياً في العراق بين الشيعة والسّنة. وما ينتج عنها من قتل وتدمير.
– الحرب الأهلية في لبنان في الثمانينات.
– المحرقة اليهودية على يد النازيين. يُقال راح ضحيتها 11 مليون شخص معظمهم من اليهود.
– المجازر العثمانية ضد مسيحيي أرمينيا من أرمن وسريان وكلدان وآشوريين راح ضحيتها 1500000 نسمة.
– قيام الديكتاتوريات بقتل معارضيها وتصفيتهم والأمثلة شهيرة وأكثر من أن تُعد.
– والكثير الكثير …

أمثلة تاريخية عن شخصيات متسامحة وإنجازاتها:

محمد عليه الصلاة والسلام: عفوه عن المكيين بعد أن تحقّق للمسلمين فتحها، وقصة تسامحه مع جاره اليهودي مشهورة أيضاً. وجاء في القرآن الكريم:
{ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} فصلت الآية 34
{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} آل عمران الآية 159
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} النحل الآية 90

السيد المسيح وقوله: “أحبوا أعدائكم” وفي الإنجيل:
“لأننا نحن أيضاً نغفر لكل من يذنب إلينا” (لوقا 11: 4).
“اغفروا يُغفر لكم” (لوقا 6: 37).
و أيضاً “إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يَغفر لكم” (متى 6: 15).

المهاتما غاندي: صاحب سياسة المقاومة السلمية (فلسفة اللاعنف) وتسامحه ومن أقواله:
“أين يتواجد الحب تتواجد الحياة.”
“إن اللاعنف هو القوة العظمى لدى الإنسان. وهو أعظم من ما أبدعه الإنسان من أكثر الأسلحة قدرة على التدمير.”
توفي مقتولاً برصاص شخص هندوسي متعصّب لم ترق له عظمة التسامح الغاندية.

بابا الفاتيكان والكاثوليك المسيحيين في العالم يوحنا بولص الثاني: تعرض لحادثة اغتيال عام 1981 من قبل تركي متعصب يدعى (علي أقجا) فخرج على أثرها بجروح بالغة، وادخل المستشفى واخضع لعمليات جراحية كادت تودي بحياته، لكنه بالرغم من ذلك التقى بقاتله وعفا عنه وأخلى سبيله بكل رحابة صدر !!!

لماذا يجب أن نتسامح؟
من المعلوم أنّ صدام زرع ثقافة الكراهية بين أبناء الشعب العراقي، واضطهده كل أبنائه دون تمييز بين انتماءاتهم القومية أو الدينية، وأحكم قبضته عليهم بالحديد والنار والقتل والسجن والإبادة الجماعية للأكراد ولشيعة الجنوب، ولكن ما إن سقط نظامه وبقي العراق دون ضابط التفت أبناؤه مُمعنين في قتل بعضهم بعضاً، ومتناسين أنّ جهودهم هذه تُهدر في ظل وجود محتل أمريكي يتصارع مع قوى عالمية تتمثل بإيران وتنظيم القاعدة والتي من مصلحتها إفشال المحتل الأمريكي على حساب الشعب العراقي.

فوائد التسامح: يسود المجتمع جو من الاستقرار والسلام والتعاون والتكافل مهما اختلفت أعراق ومعتقدات أبنائه، ويسود تفهم الآخرين واحترام خياراتهم العقائدية والثقافية.
التسامح يعكس محبة داخلية ورضا ذاتي وتوزان داخلي عميق، بالتّسامح يستشري الحب بين الناس، فيشعرون بالألفة والتوادد والتراحم.
التّسامح فضيلة رائعة أدعو كلّ صاحب فكر إلى تبنيها، كما أدعوه إلى نبذ التّطرف والغلو في الأفكار والمعتقدات.

ملاحظة خاتمة: لقد تناولت التسامح مع الآخر في حديثي دون التسامح مع الذات.

مراجع:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *